من الانحراف إلى الاحتراف

بقلم: عبير علان

“كان عمري حينها 14 عاماً… لا زلت أتذكر هذه الحادثة جيداً، عندما انهال أبي علي بالضرب…

ضربني ضرباً مبرحاً حتى لم يعد بوسعي الحراك، كنت ممدداً على الأرض، ولم تدافع عني أمي ولا إخوتي، بل كانوا بين الحين والآخر يضربونني هم أيضاً.”

يقول رمزي، من تونس وبالتحديد من مدينة بن قردان.

على الرغم من وجود القوانين التي تضمن حقوق الأطفال في تونس ضد العنف وبمختلف أشكاله، إلّا أن العنف ضد الأطفال  داخل وسطهم الأسري لايزال ظاهرة تسيطر على الكثير من العائلات التونسية، وبحسب الإحصاءات فإن 64 % من الأطفال يتعرضون للعنف الأسري و40% من الآباء يعتبرون العنف وسيلة تربوية. [1]

ويُعزى ذلك إلى ضعف الأحوال الاقتصادية وزيادة التوتر في أرجاء المنزل، وبهذا تحوّلت العائلة في عدة مناطق من تونس من الحضن الدافئ إلى المكان المُعنّف والمُهدّد للطفولة، وبالطبع تفشّي هذه الظاهرة خلق العديد من المظاهر السلبية المتعلقة بالطفولة منها: الفشل الدراسي والانقطاع المدرسي والهروب من المنزل وتعاطي المخدرات وحتى الانتحار.

وقد عانى رمزي من العنف الأسري والذي تخطّاه بانخراطه في الأنشطة الإيجابية ضمن برنامج هيئة أجيال السلام “عزم الشباب” في تونس، والذي جرى تنفيذه بالشراكة مع وزارة التربية في تونس وأكاديمية شباب تونس للتنمية. تضّمن البرنامج أنشطة ومبادرات مجتمعية تعتمد على الرياضة والفن والمهارات الحياتية، وذلك من أجل تحسين الوضع الحالي للشباب التونسي في المجتمع ورفع قدرته على الصمود في وجه التحدّيات وتمكينه مجتمعياً بهدف بناء السلام في محيطه، ولنشر ثقافة السلام بين أفراد الأسرة ومحيطهم لإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع.

 وعن قصته، يقول رمزي: “لقد حظيت بطفولة جميلة، كنت طفلاً مدلّلا في صغري بين أفراد العائلة، الطفل الذي يلعب معه كل من في المنزل، وكنتُ أُضحكهم جميعاً، خصوصاً عندما كنت أكرّر ما أسمعه منهم من كلمات بذيئة. ولكن عندما كبرت، كبرت معي هذه العادة، وبعدها لم يعد الأمر مضحكاً بالنسبة إليهم… وهنا بدأت مجريات “الطفولة الجميلة” تتغير بل وتتدهور؛ بدأوا بالتوجّه إلى الضرب، الضرب المبرح.

أصبحت أتعرض للضرب المبرح من جميع أفراد العائلة، من أبي وأمي وأختي الكبيرة ومن أخي الذي يكبرني بست سنوات، كان عمري 10سنوات حين بدأت هذه العادة المؤلمة.

ومع الوقت، باتت هذه العادة عقاباً لكل “لا” أقولها، وليس للكلمات البذيئة فقط؛ إذ وصل بهم الأمر إلى أن يضربونني في حال لم أنفذ كلامهم، أو تلفظت بكلام لم يعجبهم، مهما كان نوع الكلام. واستمر هذا الضرب حتى العام الماضي. وطوال هذه السنوات، لم يكفّوا عن ضربي أو حتى يمنعوا الضرب عنّي، ولا حتى أمي، خصوصاً عندما كان أبي أو أخي ينهالان عليّ بالضرب المبرح والمؤلم. بل أصبح تعنيف أبي لي مشهداً عادياً في البيت. 

كانوا يجلدونني أهلي بأنابيب المياه البلاستيكية؛ يقصّونها ثم يجلدونني بها.

ولكن من أقسى المشاهد التي لن أنساها طوال عمري، هو ما حصل عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري. تأخرتُ في العودة إلى البيت بعد المدرسة،فضربني أبي بالعصا ضرباً مبرحاً وموجعاً موجعاً موجعاً لم أستطع بعده الحراك. لا زلت أتذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة، حيث عذّبني عذاباً شديداً.لم تسلم من ضربه ولا بقعة من جسدي. لم أستطع الحراك… ولم تفزع لي أمي. كنا ثلاثتنا فقط في البيت.”

رحلة رمزي مع هيئة أجيال السلام:

العنف الأسري الذي عاشه رمزي لفت انتباه المرشدين التربويين في مدرسته، حيث كان غالباً ما يحضر بوجه متورّم، هذا بالإضافة إلى أن قدرته على الكلام أصبحت ضعيفة. ولذلك قاموا بإدراجه ضمن المشاركين في برنامج “عزم الشباب”، ومن خلاله اهتم المرشدون والمتطوعون بأدق تفاصيل حياة رمزي، حيث شارك في أنشطة الرياضة والفن من أجل السلام والتي كانت مصدراً لإطلاق طاقاته وخلق الصداقات ضمن مساحة آمنة.

لجأ رمزي إلى السرقة سابقاً، كما فكّر في الانتحار في إحدى المرات التي تعرّض فيها للضرب المبرح من أبيه، أما عن وضعه الآن فيقول:“مع الاهتمام الذي حظيت به من قبل المتطوعين والمشاركين في البرنامج، بدأت أشعر بالدفء وأرى النور، عادت لي الرغبة في الحياة. بدأت أثق بنفسي، حيث بدأت التمرّن على الكلام والنطق الصحيح للحروف وبدأت استمتع في قراءة مختلف المواضيع حتى أصبحتُ أتعلّم سبل الإقناع وإيجاد الحلول. وجدتُّ نفسي مغرماً في اللغة العربية الفصيحة، وأصبحتُ أستخدمها للتواصل في مختلف المواقف وللتعبير والكتابة.

 

مجموعة من الشباب خلال إحدى جلسات برنامج “عزم الشباب” في تونس

حياتي بدأت تتحسن، ثقتي بنفسي وقدرتي على التكلّم والتعبير أصبحت في حال أفضل بكثير. ويُسعدني القول بأن آخر مرة ضُربتُ فيها كانت منذ شهرين. حينها ضربني أبي، وفجأة بعدها تحدّث معي، وكانت تلك أول مرة يستخدم فيها لغة الحوار في البيت. بالنسبة لي كانت هذه لحظة تاريخية.

ومنذ فترة قصيرة حين عدتُّ إلى البيت بعد أنشطة البرنامج، قال لي أبي حيث لاحظ اجتهادي وتغيّري نحو الأفضل، وكأنه يعترف بشيء إيجابي لأول مرة: “لقد بتّ عبقرياً!”

وبهذه الجملة أختصر رحلتي مع هيئة أجيال السلام بوصفها رحلة من الانحراف إلى الاحتراف.”

 

 

 

ملاحظة: تمّ تغيير الأسماء حفاظاً على الخصوصية.

 

[1]https://alarab.co.uk/مساع-رسمية-لمقاومة-العنف-الأسري-المسلط-على-الطفل-في-تونس