الجندر أنموذجًا

خلال عقد من الآن، شهدت الساحة الإعلامية الأردنية طفرة هائلة في انتشار وسائل الإعلام بمختلف نماذجها مرئية ومسموعة ومكتوبة، وفي خضم هذا التنوع والانتشار غاب مفهوم الصحافة الحساسة للنزاع عند غالبية وسائل الإعلام المحلية، في الوقت الذي يعدّ فيه الإعلام أداة فاعلة التأثير في الرأي العام، وفي تحديد أنماط وَعْيِه وسلوكه.

وعلى إثر هذا الانتشار الإعلامي وأثره المباشر في تكوين الرأي العام، ولأهمية الدور الذي تلعبه الصحافة في هذا القطاع، عقدت هيئة أجيال السلام تدريبًا مكثفًا لمجموعة من الصحافيين والصحافيات على مفهوم الصحافة الحساسة للنزاع، وكوني أحد المشاركين في البرنامج، أحاول في هذا المقال عرض جزء هام مما تم نقاشه في الجلسات التدريبية، بالتركيز على محور مثلث العنف، الذي يعد أحد أبرز عناوين الصحافة الحساسة للنزاع، وعلى النوع الاجتماعي (الجندر).

ما هو محور مثلث العنف؟

يرى يوهان غالتونغ أن العنف يقع في ثلاثة أشكال رئيسية أُطلِق عليها مثلث العنف؛ وهي العنف المباشر، الذي يمكن مشاهدته على شاشات التلفاز وفي الصحف المكتوبة وفي السينما وغيرها، والعنف البنيوي، غير الظاهر الذي يحدث داخل البُنى الاجتماعية التحتية ويؤسس للعنف المباشر، وثالثًا، العنف الثقافي الذي يعد أخطر أنواع العنف ويجد لنفسه سياقًا زمنيًا طويل الأمد.

هل يراعي الإعلام المحلي مثلث العنف في قضايا النوع الاجتماعي؟

بات “الجندر” في الصحافة محض خزان سياسي يجري تعبئته أيديولوجيًا وثقافيًا من مختلف علاقات القوى كلما اقتضت الحاجة ذلك، وفي أفضل حالاته يصبح فزّاعة لتصفية خصومات سياسية بين علاقات القوى نفسها واستقطاباتها الحادّة التي تجد لنفسها ظلًّا وفيرًا في الرأي العام المحلي الأردني.

وللأسف، شيء من مراعاة مثلث العنف لم يحدث في وسائل الإعلام المحلية باختلاف أشكالها، حيث اكتفت هذه الوسائل في تغطية العنف المباشر دون أن تذهب بعيدًا أو عميقًا في فض الغبار عن الظواهر الكامنة والمحركة للعنف المباشر، بمعنى أنها لم تكلّف نفسها عناء تفسير العنف البُنيوي والثقافي بوصفهما حاضنتين أساسيتين لكل أشكال العنف المشاهدة اليوم. وفي تغطيتها للخبر لم تراعِ الأخلاقيات المهنية المرتبطة بالصحافة الحساسة للنزاع. وتغدو الأمثلة كثيرة في هذا الشأن:

  • أثناء تغطية جريمة قتل الفتاة الأردنية أحلام، على يد والدها، ذهبت إحدى الصحف الإلكترونية المحلية أثناء تغطيتها للحادثة الى تسليط الضوء على العنف المباشر، وهو القتل، دون محاولات تفسير الأسباب التي أدت إلى القتل، كما أنها عرجت إلى ذكر تفاصيل لا لزوم لها داخل المادة الصحفية، مثل ذكر أداة القتل، وإعادة تمثيل مسرح الجريمة.
  • في الجريمة التي تعرضت لها الفتاة الأردنية “فاطمة” على يد زوجها، ذهبت إحدى الصحف الإلكترونية للقاء الناجية فورًا، ولم تأخذ بعين الاعتبار حالة الصدمة النفسية التي تمر بها “فاطمة”، وليس هذا فحسب، بل طُلب منها أيضًا إعادة الحديث عن تفاصيل الجريمة في خرق واضح لأبسط مهنيات الصحافة الحساسة للنزاع.
  • عَنوَنت إحدى الصحف المكتوبة خبرًا آخر بما يلي: “قتل ابنته الأرملة بعد ولادتها لتوأم في جريمة شرف جديدة”، وهو عنوان جاء لاستثارة الرأي العام أولًا، وثانيًا إقحام جملة “جريمة شرف” والتي لا سند تشريعي واضح لها في قانون العقوبات الأردني ويعد منافيًا لأخلاقيات الصحافة الحساسة للنزاع.

ماذا جنينا؟

ساهم هذا النوع من التغطية الصحافية للقضايا الحساسة للنزاع في جملة من النتائج، أبرزها:

  1. إقصاء ممنهج لمفهومي العنف البنيوي والثقافي، والتركيز على العنف المباشر، ما أدى إلى احتجاز الإعلام المحلي، نفسه بنفسه، عن دوره في البحث وكشف الأسباب الحقيقية حول الجرائم وإبراز الحقيقة بكل موثوقية وشفافية.
  2. قَولَبة الرأي العام سلبًا تجاه الجرائم الموجهة ضد النساء حيث يؤثر الخطاب الإعلامي على آراء وردود الفعل في الرأي العام التي بدت ملحوظة عبر قنوات التواصل الاجتماعية.
  3. يسبب هذا النوع من التغطية في إلحاق ضرر نفسي ومعنوي كبير، سواء لدى الناجيات أو لدى عائلات الضحايا، ما يعكس تجاوزًا دَسِمًا لكل أخلاقيات الصحافة الحساسة للنزاع.

وبذلك، نجد أن الخطاب الإعلامي الثقافي الرسمي وغير الرسمي يصيغ نفسه وفق نفس أَبوَي تراتبي يجد له حواضن طبيعية في البُنى التحتية الاجتماعية المحاصرة بثنائية مرضية “Pathological Binarism”، ويسحب من هذه الثنائية باستمرار ويحتجز نفسه داخلها. كما أنه خطاب لا يراعي الحساسية الجندرية في تراكيبه، وتغيب عنه القواعد الأساسية للصحافة الحساسة للنزاع، فتجده خطابًا أزمَويًا في استحضاره للأنثى كخبر وصورة في الإعلام.

يقتضي ذلك إعادة إنتاج هذا الخطاب وفق أسس مهنية شفافة تواكب التطور الإعلامي في عصر المعرفة وفي زمن سرعة نقل المعلومة، واتساع رقعة وسائل نقل المعلومة يكاد يكون لا نهائي”Galaxy of Signifiers”.

 

بقلم: أيمن الخطيب

صحفي مشارك في برنامج إعلام السلام التابع لهيئة أجيال السلام